فصل: سئل عن الرجل يشتري سلعة بمال حلال ولم يعلم أصل السلعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل عن الرجل يشتري سلعة بمال حلال، ولم يعلم أصل السلعة، هل هو حرام أو حلال‏؟‏ ثم كانت حرامًا في الباطن، هل يأثم أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

متى اعتقد المشتري أن الذي مع البائع ملكه، فاشتراه منه على الظاهر، لم يكن عليه إثم في ذلك‏.‏ وإن كان في الباطن قد سرقه البائع، لم يكن على المشتري إثم، ولا عقوبة، لا في الدنيا، ولا في الاخرة‏.‏ والضمان والدرك على الذي غره وباعه‏.‏ وإذا ظهر صاحب السلعة فيما بعد ردت إليه سلعته، ورد على المشتري ثمنه، وعوقب البائع الظالم، فمن فرق بين من يعلم ومن لا يعلم فقد أصاب، ومن لا، أخطأ‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/وَقَال ـ رحِمهُ اللّه‏:‏

 فصل

حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما ‏(‏أمرهم بشق ظروف الخمر، وكسر دِنَانها‏)‏ دليل على إحدى الروايتين في جواز إتلاف ذلك عند الإنكار، وأن الظرف يتبع المظروف‏.‏ ومثله ما ثبت عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب‏:‏ أنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وقد نص أحمد على ذلك‏.‏ ومثله إتلاف الآلة التي يقوم بها صورة التاليف المحرم، وهي آلات اللهو؛ فإن هذه العقوبات المالية ثابتة بالسنة وسيرة الخلفاء‏.‏ ومن قال‏:‏ إنها منسوخة فما معه دليل على ذلك‏.‏

وقد احتج بعضهم‏:‏ بأنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنهم قد طبخوا لحوم الحمر‏.‏ قال لهم‏:‏ ‏(‏أريقوها، واكسروا القدور‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ أفلا نريقها، ونغسل القدور‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏افعلوا‏)‏ قالوا‏:‏ فلعلهم لو استأذنوه في أوعية الخمر، لقال ذلك‏.‏ فأجيب بجوابين‏:‏

/ أحدهما‏:‏ أن دفع الشريعة بمثل هذه التقديرات لا تجوز، فإنا إذا سوغنا فيما أمر به أو نهي عنه أنه لو روجع لنسخ ذلك‏:‏ لجاز رفع كثير من الشريعة بمثل هذه الخيالات‏.‏ مثل أن يقال‏:‏ لو روجع الرب في نقص الصلاة عن خمس لنقصها، ولو، ولو‏.‏‏.‏ ويقال‏:‏ هذا باطل من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنا لا نعلم أنه لو روجع لفعل، وثبوت ذلك في صورة لا يوجب ثباته في سائر الصور، إلا بتقدير المساواة من كل وجه، وانتفاء الموانع، وهذا غير معلوم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لو فرض أنه لو كان لكان، لكن لم يكن، وإذا كان النسخ معلقًا بسؤالهم، ولم يسألوا لم يقع النسخ‏.‏ كما أن ابتداء الإيجاب والتحريم قد يكون معلقًا بسؤالهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏ ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته‏)‏‏.‏ وقال في الحج لما سألوه‏:‏ أفي كل عام‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما قمتم به‏)‏، وقال في قيام رمضان‏:‏ ‏(‏إنما منعني أن أخرج إليكم خشية أن يفترض عليكم، فلا تقوموا‏)‏‏.‏ فقد بين / النبي صلى الله عليه وسلم أن السؤال والعمل قد يكون سببًا لابتداء الحكم من وجوب أو تحريم‏.‏ ثم إذا لم يكن السبب فلم يكن الوجوب والتحريم، لم يثبت بعد موته صلى الله عليه وسلم، وكذلك قد يكون سببًا لرفع حكم من وجوب أو تحريم، ثم إذا لم يوجد السبب لم يرتفع الحكم بعد موته‏.‏

وليس من هذا قول عائشة‏:‏ لو رأي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما صنع النساء بعده لمنعهن المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل‏.‏ فإن عائشة كانت أتقي للّه من أن تسوغ رفع الشريعة بعد موته، وإنما أرادت أن النبي صلى الله عليه وسلم لو رأي مافي خروج بعض النساء من الفساد لمنعهن الخروج، تريد بذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه‏)‏ وإن كان مخرجه على العموم، فهو مخصوص بالخروج الذي فيه فساد، كما قال أكثر الفقهاء‏:‏ إن الشواب التي في خروجهن فساد يمنعهن‏.‏ فقصد بذلك تخصيص اللفظ الذي ظاهره أنها علمت من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لا يأذن في مثل هذا الخروج، لا أنها قصدت منع النساء مطلقًا، فإنه ليس كل النساء أحدثن، وإنما قصدت منع المحدثات‏.‏

الجواب الثاني‏:‏ أن هذا الحديث الوارد في أوعية لحوم الحمر، حجة ـ أيضًا ـ في المسألة، فإنه أمر أولًا بتكسير الأوعية، ثم لما استأذنوه/ في الغسل أذن فيه، فعلم بذلك أن الكسر لا يجب، وليس فيه أنه لا يجوز، بل يقال‏:‏ يجوز الأمران، الكسر والغسل‏.‏

وكذلك يقال في أوعية الخمر‏:‏ إنه يجوز إتلافها، ويجوز تطهيرها، فإذا كان الأصلح الإتلاف أتلفت، ولو أن صاحب أوعية الخمرة والملاهي طهر الأوعية، وغسل الآلات لجاز بالاتفاق، لكن إذا أظهر المنكر حتى أنكر عليه فإنه يستحق العقوبة بالإتلاف‏.‏

والصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ لم يكونوا علموا التحريم فأسقط عنهم الإتلاف لذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل يتجر في الأقباع‏:‏ هل يجوز له بيع القبع المرعزي، وشراؤه، والاكتساب منه، وما يجري مجراه من الحرير الصامت‏؟‏ أو يحرم عليه لكون القبع لبس الرجال دون النساء‏؟‏ وهل يجوز للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ، أو إليهود والنصاري، ومن يجري مجراهم‏؟‏ أو يحرم جميع ذلك‏؟‏ وهل يجوز لمن يتجر في هذا الصنف وغيره أن يبيع لأهل البادية، والنساء والصبيان، ممن يجهل القيمة ما ثمنه درهم بدرهمين، أو قريب منها، مع علمه أن الذي يشتريه لو / احتاج إلى ثمنه في بقية يومه لم يصل إلى الدرهم الذي هو أصل ثمنه، بل أقل منه، أو يحرم عليه ذلك‏؟‏ وما القدر الذي يجوز من الكسب فيما يباع مساومة، وهل هو الثلث، أو أقل منه، أو أكثر ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما أقباع الحرير، فيحرم لبسها على الرجال والنساء، أما على الرجال فلأنها حرير، ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، وإن كان مبطنا بقطن أو كتان‏.‏

وأما على النساء؛ فلأن الأقباع من لباس الرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء‏.‏

وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا، ففيه قولان مشهوران للعلماء، لكن أظهرهما أنه لا يجوز؛ فإن ما حرم على الرجال فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، بل عليه أن يأمره بالصلاة، إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات‏.‏ وقد رأي عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوبًا من حرير فمزقه، وقال‏:‏ لا تلبسوهم الحرير‏.‏ وكذلك ابن عمر مزق ثوب حرير كان على ابنه، وما حرم لبسه لم تحل صناعته، ولا بيعه لمن يلبسه من أهل / التحريم‏.‏ ولا فرق في ذلك بين الجند وغيرهم‏.‏

فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه، فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وهذه مثل الإعانة على الفواحش، ونحوها‏.‏ وكذلك لا يباع الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم‏.‏وأما إذا بيع الحرير للنساء فيجوز‏.‏ وكذلك إذا بيع لكافر؛ فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل مشرك‏.‏

وأما البيع فلا يجوز أن يباع لمسترسل إلا بالسعر الذي يباع به غيره، لا يجوز لأحد استرساله أن يغبن من الربح غبنًا يخرج عن العادة‏.‏ وقدر ذلك بعض العلماء بالثلث، وآخرون بالسدس، وبعضهم قالوا‏:‏ يرجع في ذلك إلى عادة الناس مما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين ما يربحونه على المسترسل‏.‏ والمسترسل قد فسر بأنه الذي لا يماكس، بل يقول‏:‏ خذ وأعطني‏.‏ وبأنه الجاهل بقيمة المبيع، فلا يغبن غبنًا فاحشًا، لا هذا، ولا هذا‏.‏ وفي الحديث ‏(‏غبن المسترسل رِبًا‏)‏‏.‏ ومن علم أنه يغبنهم استحق العقوبة؛ بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين، حتى يلزم طاعة اللّه ورسوله، وللمغبون أن يفسخ البيع، فيرد عليه السلعة، ويأخذ منه الثمن‏.‏ وإذا تاب هذا الغابن / الظالم، ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم، فليتصدق بمقدار ما ظلمهم عنهم؛ لتبرأ ذمته من ذلك‏.‏

وبيع المساومة إذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التي يشترون بها السلع في غالب الأوقات، فإنهم يباع غيرهم كما يباعون، فلا يربح على المسترسل أكثر من غيره‏.‏

وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، ينبغي له أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر؛ فإن في السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع المضطر‏.‏ ولو كانت الضرورة إلى مالا بد منه؛ مثل أن يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس؛ فإنه يجب عليه ألا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة بغير اختياره، ولا يعطوه زيادة على ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل باع قمحًا بثمن مؤجل، فلما حل الأجل لم يكن عند المدين إلا قمحًا، فهل له أن يأخذ منه قمحًا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، يجوز له أن يأخذ منه قمحًا، وليس ذلك ربًا عند / جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏ وإذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين من أن يكلفه بيعه وإعطاء الدراهم، فالأفضل للغريم أخذ القمح‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل اشتري غلة بدرهم معين إلى أجل، وعند نهاية الأجل قصد صاحب الدين أخذ ماله، فلم يجد شيئًا إلا غلة قيمتها بالسعر في ذلك الوقت، وتعينت بالدراهم عن براءة الذمة، فهل يجوز لصاحب الدين أن يأخذ الغلة بالسعر الواقع‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه المسألة فيها قولان، مثل أن يبيع حنطة إلى أجل، ثم يأخذ عن الثمن حنطة، فعند مالك وأحمد لا يصح هذا؛ وعند أبي حنيفة والشافعي لا بأس به، وهو قول بعض أصحاب أحمد‏.‏

 وسئل عن رجل له في ذمة رجل دين، وللمديون ولد، فقال ولد المديون لرب الدين‏:‏ بعني سلعة إلى أجل، وأنا أبيعها بالدراهم الحاضرة، / ويوفي ما على والده‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا كان مقصود المشتري الدراهم، وغرضه أن يشتري السلعة إلى أجل ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذه تسمي ‏[‏مسألة التورق‏]‏ لأن غرضه الورق لا السلعة‏.‏وقد اختلف العلماء في كراهته،فكـرهـه عمر بن عبد العـزيز،وطـائفـة مـن أهـل المدينـة،مـن المالكيـة، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد،ورخص فيه آخرون، والأقوي كراهته‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن الرجل عليه دين، ويحتاج إلى بضاعة أو حيوان؛ لينتفع به، أو يتجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب منه أن يشتريه، ثم يدينه منه إلى أجل ‏؟‏ وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء ‏؟‏

فأجاب‏:‏

من كان عليه دين، فإن كان موسرًا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عيه بمعاملة ولا غيرها‏.‏

وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة، / والتجارة فيها جاز، إذا كان على الوجه المباح‏.‏ وأما إن كان مقصوده الدراهم فيشتري بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء‏.‏ وهذا يسمي ‏[‏التورق‏]‏ قال عمر بن عبد العزيز ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ‏:‏ التورق أخية الربا‏.‏

 وسئل عمن طلب من إنسان سلعة تساوي خمسة عشر، قال‏:‏ إنه ما يعطي إلا بثمانية وعشرين، فهل يجوز للآخذ أن يأخذ مع علمه بالزيادة ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان المشتري محتاجًا إلى الدراهم، فاشتراها ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذا يسمي ‏[‏التورق‏]‏ وإن كان المشتري غرضه أخذ الورق، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، كما قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ التورق أخية الربا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا قومت بنقد، ثم بعت بنسيئة‏:‏ فتلك دراهم بدراهم، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏

/

 وسئل عن تاجرين عرضت عليهما سلعة للبيع، فرغب في شرائها كل واحد منهما، فقال أحدهما للآخر‏:‏ أشتريها شركة بيني وبينك، وكانت نيته ألا يزيد عليه في ثمنها، وينفرد فيها، فرغب في الشركة لأجل ذلك، فاشتراها أحدهما، ودفع ثمنها من مالهما على السوية، فهل يصح هذا البيع والحالة هذه‏؟‏ أو يكون في ذلك دلسة على بائعها، والحالة هذه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما إذا كان في السوق من يزايدهما، ولكن أحدهما ترك مزايدة صاحبه خاصة لأجل مشاركته له، فهذا لا يحرم؛ فإن باب المزايدة مفتوح، وإنما ترك أحدهما مزايدة الآخر، بخلاف ما إذا اتفق أهل السوق على ألا يزايدوا في سلع هم محتاجون لها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها ويتقاسمونها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقي السلع إذا باعها مساومة؛ فإن ذلك فيه من بخس الناس، ما لا يخفى‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن سماسرة في فندق، من جملتهم ثلاثة يشترون من يد بعضهم لبعض، ثم إنهم يزيدون في الشراء، ويقسمون الفائدة، فهل يجوز ذلك ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، لا يجوز للدلال ـ الذي هو وكيل البائع في المناداة ـ أن يكون شريكًا لمن يزيد بغير علم البائع؛ فإن هذا يكون هو الذي يزيد، ويشتري في المعنى‏.‏ وهذا خيانة للبائع، ومن عمل مثل هذا لم يحب أن يزيد أحد عليه، ولم ينصح البائع في طلب الزيادة، وإنهاء المناداة‏.‏

وإذا تواطأ جماعة على ذلك، فإنهم يستحقون التعزير البليغ الذي يردعهم، وأمثالهم عن مثل هذه الخيانة، ومن تعزيرهم أن يمنعوا من المناداة‏.‏ حتى تظهر توبتهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن معسر تداين من رجل قمحًا بأضعاف قيمته، ولم يتغير سعره من مدة ما استدانه، وإلى أجل استحقاقه عليه أدانه إياه، ووصفه له بصفة‏.‏ وذكر له أنه يساوي ستة عشر كل إردب، وكتب حجة، ووقع الاتفاق بينهما على أن كل إردب باثنين وثلاثين‏.‏ باعه المديون ببينة وإشهاد باثني عشر درهم الإردب، بخلاف ما وصفه المستدين، وقد استحق الأجل‏.‏ وعسر المديون في طلب ما عليه، فهل يطالب المديون بقيمة المثل‏؟‏ أو بما كتب عليه ‏؟‏ أو بقمح مثل قمحه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما المعسر فلا يجوز مطالبته بما أعسر عنه، وإن كان حقـًا واجبًا وجب إنظاره به‏.‏ وإن كان معاملة ربوية لم يجز أن يطالب إلا برأس ماله‏.‏ وبيع العين الغائبة بغير صفة بيع باطل، يجب فيه رد المبيع، أو رد بدله‏.‏ ولا يستحق فيه الثمن المسمي‏.‏ فكيف إذا قال‏:‏ هذا يساوي الساعة كذا وكذا، وأنا أبيعكه بكذا‏.‏ أكثر منه إلى أجل‏؟‏ فهذا ربا‏.‏ كما قال ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ إذا قومت نقدًا وبعت نقدًا فلا بأس، وإذا قومت نقدًا وبعت إلى أجل، / فتلك دراهم بدراهم‏.‏ وهذا قوم نقدًا وباع إلى أجل‏.‏ وإذا كان المشتري قد فسخ البيع لفوات الصفة، ولم يمكنه رد المبيع إلى البائع بعينه، ولا حفظه بعينه عند أحد، فباعه وحفظ له ثمنه، لم يجب عليه غير ذلك الثمن‏.‏ إذا كان قد باعه بثمن مثله‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل مراب خلَّف مالًا وولدًا، وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالًا للولد بالميراث أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه؛ إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به‏.‏ والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه‏.‏ إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال‏.‏ وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء، جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما، جعل ذلك نصفين‏.‏

/

 وسئل عن رجل يختلط ماله الحلال بالحرام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يخرج قدر الحرام بالميزان، فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له‏.‏ وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته، تصدق به عنه‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن امرأة كانت مغنية، واكتسبت في جهلها مالًا كثيرًا، وقد تابت وحجت إلى بيت اللّه تعالى، وهي محافظة على طاعة اللّه، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره؛ إذا أكلت، وتصدقت منه، تؤجر عليه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد‏.‏ مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرًا، أو من يستأجر لعصر الخمر، أو حملها‏.‏ فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله‏.‏

/وأما إن كانت العين، أو المنفعة محرمة؛ كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضي له به قبل القبض‏.‏ ولو أعطاه إياه لم يحكم برده؛ فإن هذا معونة لهم على المعاصي، إذا جمع لهم بين العوض والمعوض‏.‏ ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين‏.‏

فـإن تابت هـذه البغي، وهـذا الخمار، وكانـوا فقـراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر، أو يعمل صنعة؛ كالنسج والغزل، أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئًا ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن‏.‏

وأما إذا تصدق به لاعتقاده أن يحل، عليه أن يتصدق به،فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله اللّه ـ إن اللّه لا يقبل إلا الطيب ـ فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهر البغي خبيث‏)‏‏.‏

 وسئل عن الجهات بالزكاة، والضمان بالأسواق، وغيرها، إذا أجراهم / السلطان في أقطاع الجند‏:‏ حلال أم حرام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما إذا كان الرجل محتاجًا والجهة فيها حلال وحرام،أو فيها شبهة،فينبغي لصاحبها إذا أخذها ولابد أن يصرفها في الأمور البرانية،مثل علف دابته،والكلف السلطانية، ونحو ذلك‏.‏

وإذا تصدق بها على الفقراء، أو نوي الصدقة بها عمن يستحقها، كان ذلك حسنًا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل له إقطاع بالأُطرون، وكان عادة المسلمين أن يشتري الأطرون الصعاليك، ويبيعوه كل رطل بثلاثة فلوس، ولما كان زمان بيبرس جاء شخص ضمن الأطرون ألا يبيع أحد ولا يشتري إلا من تحت يد الضامن بثلاثة وعشرين درهما القنطار، فهل هو حلال أم حرام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

من كان الأطرون قد أخذه بحق لم يجز لأحد أن يكره أحدًا على الشراء منه، ولا يمنعه أن يشتري من غيره، بل إذا أخذه بحق وباعه كما تباع سلع المسلمين بذلك جاز‏.‏

/

 وسئل الشيخ الإمام العَالم العَامِل شيخ الإسلام، وقطب الأئمة الأعلام، ومن عمت بركاته أهل العراقين والشام، تقي الدين أبوالعباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، متع اللّه المسلمين ببركاته، وكان بالديار المصرية ـ عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال‏:‏ أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان‏.‏ فقيل له‏:‏ لم ذلك ‏؟‏ فذكر أن وقعة المنصورة لم تقسم الغنائم فيها، واختلطت الأموال بالمعاملات بها‏.‏ فقيل له‏:‏ إن الرجل يؤجر نفسه لعمل من الأعمال المباحة، ويأخذ أجرته حلال‏.‏ فذكر أن الدرهم في نفسه حرام‏.‏ فقيل له‏:‏ كيف قبل الدرهم التغير أولًا‏.‏ فصار حرامًا بالسبب الممنوع، ولم يقبل التغير فيكون حلالًا بالسبب المشروع، فما الحكم في ذلك‏؟‏

فأجاب ـ رضي اللّه عنه‏:‏

الحمد للّه، هذا القائل الذي قال‏:‏ أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان، غالط، مخطئ في قوله، باتفاق أئمة الإسلام؛ فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل / البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل النسك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك، حتى الإمام أحمد، في ورعه المشهور، كان ينكر مثل هذه المقالة‏.‏ وجاء رجل من النساك فذكر له شيئا من هذا، فقال‏:‏ انظر إلى هذا الخبيث، يحرم أموال المسلمين‏.‏

وقال‏:‏ بلغني أن بعض هؤلاء يقول‏:‏ من سرق لم تقطع يده؛ لأن المال ليس بمعصوم، ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر، بناء على هذه الشبهة الفاسدة، وهو أن الحرام قد غلب على الأموال، لكثرة الغصوب، والعقود الفاسدة، ولم يتميز الحلال من الحرام‏.‏

ووقعت هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع‏.‏ فصاروا نوعين‏:‏

المباحية لا يميزون بين الحلال والحرام، بل الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما حرموه؛ لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد، وهو أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لابد للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن‏.‏ فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد، كيف أورث الانحلال عن دين الإسلام ‏؟‏‏!‏

/وهؤلاء يحكون في الورع الفاسد حكايات، بعضها كذب ممن نقل عنه، وبعضها غلط‏.‏ كما يحكون عن الإمام أحمد‏:‏ أن ابنه صالحًا لما تولي القضاء لم يكن يخبز في داره، وأن أهله خبزوا في تنوره فلم يأكل الخبز، فألقوه في دجلة، فلم يكن يأكل من صيد دجلة‏.‏ وهذا من أعظم الكذب والفرية على مثل هذا الإمام، ولا يفعل مثل هذا إلا من هو من أجهل الناس، أو أعظمهم مكرًا بالناس، واحتيالا على أموالهم، وقد نزهه اللّه عن هذا، وهذا‏.‏ وكل عالم يعلم أن ابنه لم يتول القضاء في حياته، وإنما تولاه بعد موته، ولكن كان الخليفة المتوكل قد أجاز أولاده، وأهل بيته جوائز من بيت المال، فأمرهم أبو عبد اللّه ألا يقبلوا جوائز السلطان، فاعتذروا إليه بالحاجة، فقبلها من قبلها منهم، فترك الأكل من أموالهم، والانتفاع بنيرانهم في خبز أو ماء؛ لكونهم قبلوا جوائز السلطان‏.‏ وسألوه عن هذا المال‏:‏ أحرام هو ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فقالوا‏:‏ أنحج منه‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، وبين لهم أنه إنما امتنع منه؛ لئلا يصير ذلك سببًا إلى أن يداخل الخليفة فيما يريد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذ العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا يأخذه‏)‏، ولو ألقي في دجلة الدم والميتة ولحم الخنزير، وكل حرام في الوجود، لم يحرم صيدها، ولم تحرم‏.‏

ومن الناس من آل به الإفراط في الورع إلى أمر اجتهد فيه، / فيثاب على حسن قصده، وإن كان المشروع خلاف ما فعله، مثل من امتنع من أكل مافي الأسواق، ولم يأكل إلا ما ينبت في البراري، ولم يأكل من أموال المسلمين، وإنما يأكل من أموال أهل الحرث، وأمثال ذلك مما يكون فاعله حسن القصد، وله فيما فعل تأويل، لكن الصواب المشروع خلاف ذلك؛ فإن اللّه ـ سبحانه ـ خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بذلك، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏ ، ثم ذكر الرجل يُطِيل السَّفَر أشْعَث أغْبَر، يمد يده إلى السماء‏:‏ يارب، يارب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّي يستجاب لذلك‏)‏ ، فقد بين صلى الله عليه وسلم أن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، من أكل الطيبات،كما أمرهم بالعمل الصالح، والعمل الصالح لا يمكن إلا بأكل وشرب ولباس وما يحتاج إليه العبد من مسكن ومركب وسلاح يقاتل به،وكراع يقاتل عليه، وكتب يتعلم منها،وأمثال ذلك مما لا يقوم ما أمر اللّه به إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب‏.‏

فإذا كان القيام بالواجبات فرضًا على جميع العباد، وهي لا تتم إلا بهذه الأموال، فكيف يقال‏:‏ إنه قليل، بل هو كثير غالب، بل هو / الغالب على أموال الناس‏.‏ ولو كان الحرام هو الأغلب، والدين لا يقوم في الجمهور إلا به، للزم أحد أمرين‏:‏ إما ترك الواجبات من أكثر الخلق، وإما إباحة الحرام لأكثر الخلق، وكلاهما باطل‏.‏

 و ‏[‏الورع‏]‏ من قواعد الدين، ففي الصحيح عن عثمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الحلال بَيِّن، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لعِرّضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعي حول الحِمَي يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمي، ألا وإن حمي اللّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏دع ما يَرِيبُك إلا ما لا يريبك‏)‏ ورأي تمرة ساقطة فقال‏:‏ ‏(‏لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها‏)‏‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وهذا يتبين بذكر أصول‏:‏

 أحدها‏:‏ أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك‏.‏ وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول‏.‏ ومن الناس / من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتي فقهيًا معينًا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط، ولهذا نظائر‏.‏

منها‏:‏ ‏[‏مسألة المغانم‏]‏ ، فإن السنة أن تجمع وتخمس، وتقسم بين الغانمين بالعدل‏.‏ وهل يجوز للإمام أن ينفل من أربعة أخماسها‏؟‏ فيه قولان‏.‏ فمذهب فقهاء الثغور، وأبي حنيفة وأحمد، وأهل الحديث، أن ذلك يجوز، لما في السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل في بدأته الربع بعد الخمس، ونفل في رجعته الثلث بعد الخمس‏.‏ وقال سعيد بن المسيب، ومالك، والشافعي‏:‏ لا يجوز ذلك، بل يجوز عند مالك التنفيل من الخمس، ولا يجوز عند الشافعي إلا من خمس الخمس‏.‏ وكان أحمد يعجب من سعيد بن المسيب، ومالك، كيف لم تبلغهما هذه السنة مع وفور علمهما ‏؟‏‏!‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال‏:‏ بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سرية قبل نجد، فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيرًا، ونفلنا بعيًرا بعيًرا‏.‏ ومعلوم أن السهم إذا كان اثني عشر بعيرًا لم يحتمل خمس الخمس أن يخرج منه لكل واحد بعير؛ فإن ذلك لا يكون إلا إذا كان السهم أربعة وعشرين بعيرًا‏.‏ وكذلك إذا فضل الإمام بعض الغانمين على بعض لمصلحة راجحة، كما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم / سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم راجل وفارس، فإن ذلك يجوز في أصح قولي العلماء، ومنهم من لا يجيزه، كما تقدم‏.‏

وكذلك إذا قال الإمام‏:‏ من أخذ شيئا فهو له، ولم تقسم الغنائم‏.‏ فهذا جائز في أحد قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد، ولا يجوز في القول الآخر، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وفي كل من المذهبين خلاف‏.‏

وعلى مثل هذا الأصل تنبني الغنائم في الأزمان المتأخرة؛ مثل الغنائم التي كان يغنمها السلاجقة الأتراك، والغنائم التي غنمها المسلمون من النصارى من ثغور الشام ومصر، فإن هذه أفتي بعض الفقهاء ـ كأبي محمد الجويني والنواوي ـ أنه لا يحل لمسلم أن يشتري منها شيئا، ولا يطأ منها فرجًا، ولا يملك منها مالًا، ولزم من هذا القول من الفساد ما اللّه به عليم‏.‏ فعارضهم أبو محمد بن سباع الشافعي، فأفتي‏:‏ أن الإمام لا يجب عليه قسمة المغانم بحال، ولا تخميسها، وأن له أن يفضل الراجل، وأن يحرم بعض الغانمين، ويخص بعضهم، وزعم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي ذلك‏.‏ وهذا القول خلاف الإجماع، والذي قبله باطل ومنكر أيضا، فكلاهما انحراف‏.‏

والصواب في مثل هذه أن الإمام إذا قال‏:‏ من أخذ شيئا فهو له، /فإن قيل بجواز ذلك، فمن أخذ شيئا ملكه، وعليه تخميسه، وإن كان الإمام لم يقل ذلك، ولم يهبهم المغانم، بل أراد منها ما لا يسوغ بالاتفاق‏.‏ أو قيل‏:‏ أنه يجب عليه أن يقسم بالعدل، ولا يجوز له الإذن بالانتهاب‏.‏ فهنا المغانم مال مشترك بين الغانمين، ليس لغيرهم فيها حق‏.‏ فمن أخذ منها مقدار حقه جاز له ذلك وإذا شك في ذلك‏:‏ فإما أن يحتاط ويأخذ بالورع المستحب، أو يبني على غالب ظنه، ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها‏.‏

وكذلك ‏[‏المزارعة‏]‏ على أن يكون البذر من العامل التي يسميها بعض الناس المخابرة‏.‏ وقد تنازع فيها الفقهاء، لكن ثبت بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحيحة جوازها؛ فإنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم‏.‏ وأما نهيه عن المخابرة فقد جاء مفسرًا في الصحيح؛ فإن المراد به أن يشترط للمالك زرع بقعة بعينها‏.‏ وكذلك كراء الأرض بجزء من الخارج منها‏.‏ فجوزه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ ونهي عنه مالك وأحمد في رواية‏.‏ ونظائر ذلك كثيرة‏.‏ فهذا بين‏.‏

 الأصل الثاني‏:‏ أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال، جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال‏.‏ وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة‏.‏ فإنه قد ثبت أن عمر بن الخطاب / ـ رضي اللّه عنه ـ رفع إليه أن بعض عماله يأخذ خمرًا من أهل الذمة عن الجزية‏.‏ فقال‏:‏ قاتل اللّه فلانا، أما علم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قاتل اللّه إليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها‏)‏‏.‏ ثم قال عمر‏:‏ ولُّوهم بيعها، وخذوا منهم أثمانها‏.‏ فأمر عمر أن يأخذوا من أهل الذمة الدراهم التي باعوا بها الخمر؛ لأنهم يعتقدون جواز ذلك في دينهم‏.‏

ولهذا قال العلماء‏:‏ إن الكفار إذا تعاملوا بينهم بمعاملات يعتقدون جوازها، وتقابضوا الأموال ثم أسلموا كانت تلك الأموال لهم حلالًا، وإن تحاكموا إلينا أقررناها في أيديهم، سواء تحاكموا قبل الإسلام، أو بعده‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ، فأمرهم بترك ما بقي في الذمم من الربا، ولم يأمرهم برد ما قبضوه؛ لأنهم كانوا يستحلون ذلك‏.‏

والمسلم إذا عامل معاملات يعتقد جوازها كالحيل الربوية التي يفتي بها من يفتي من أصحاب أبي حنيفة، وأخذ ثمنه، أو زارع على أن البذر من العامل، أو أكري الأرض بجزء من الخارج منها، ونحو ذلك، وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في ذلك المال، وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة بطريق الأولي والأحري، ولو أنه تبين له فيما بعد رجحان التحريم لم يكن عليه إخراج المال الذي كسبه/ بتأويل سائغ؛ فإن هذا أولي بالعفو والعذر من الكافر المتأول، ولما ضيق بعض الفقهاء هذا على بعض أهل الورع ألجأه إلى أن يعامل الكفار، ويترك معاملة المسلمين‏.‏ ومعلوم أن اللّه ورسوله لا يأمر المسلم أن يأكل من أموال الكفار، ويدع أموال المسلمين، بل المسلمون أولي بكل خير، والكفار أولي بكل شر‏.‏

 الأصل الثالث‏:‏ أن الحرام نوعان‏:‏

حرام لوصفه؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير‏.‏ فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه‏.‏ وإن لم يغيره ففيه نزاع، ليس هذا موضعه‏.‏

والثاني‏:‏ الحرام لكسبه؛ كالمأخوذ غصبًا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير، أو دقيقًا، أو حنطة، أو خبزًا، وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع، لا على هذا، ولا على هذا، بل إن كانا متماثلين أمكن أن يقسموه، ويأخذ هذا قدر حقه، وهذا قدر حقه، وإن كان قد وصل إلى كل منهما عين مال الآخر، الذي أخذ الآخر نظيره‏.‏ وهل يكون الخلط كالإتلاف‏؟‏ فيه وجهان في مذهب الشافعي، وأحمد، وغيرهما‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كالإتلاف، فيعطيه مثل حقه من أين أحب‏.‏

/والثاني‏:‏ أن حقه باق فيه‏.‏ فللمالك أن يطلب حقه من المختلط، فهذا أصل نافع؛ فإن كثيرًا من الناس يتوهم أن الدراهم المحرمة إذا اختلطت بالدراهم الحلال حرم الجميع فهذا خطأ؛ وإنما تورع بعض العلماء فيما إذا كانت قليلة، وأما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعًا‏.‏

 الأصل الرابع‏:‏ المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء؛ كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عوارٍ أو ودائع أو رهون، قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها الى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين، المصالح الشرعية‏.‏

ومن الفقهاء من يقول‏:‏ توقف أبدًا، حتى يتبين أصحابها، والصواب الأول‏.‏ فإن حبس المال دائمًا لمن لا يرجي لا فائدة فيه، بل هو تعرض لهلاك المال، واستيلاء الظلمة عليه‏.‏ وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع، فجعل يطوف على المساكين، ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول‏:‏ اللهم عن رب الجارية، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعلى له مثله يوم القيامة‏.‏ وكذلك أفتي بعض التابعين من غل من الغنيمة، وتاب بعد تفرقهم، أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم؛ كمعاوية وغيره من أهل الشام، وهذا يبين‏:‏

/ الأصل الخامس‏:‏ وهو الذي يكشف سر المسألة، وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16]‏ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏، فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطًا بالقدرة عليه، والتمكن من العمل به‏.‏ فما عجزنا عن معرفته، أو عن العمل به، سقط عنا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في اللقطة‏:‏ ‏(‏فإن جاء صاحبها فأدِّها اليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء‏)‏، فهذه اللقطة كانت ملكًا لمالك، ووقعت منه، فلما تعذر معرفة مالكها، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هي مال الله يؤتيه من يشاء‏)‏، فدل ذلك على أن الله شاء أن يزيل عنها ملك ذلك المالك، ويعطيها لهذا الملتقط الذي عرفها سنة‏.‏ ولا نزاع بين الأئمة أنه بعد تعريف السنة يجوز للملتقط أن يتصدق بها‏.‏ وكذلك له أن يتملكها إن كان فقيرًا‏.‏ وهل له التملك مع الغني‏؟‏ فيه قولان مشهوران‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد أنه يجوز ذلك‏.‏ وأبو حنيفة لا يجوزه‏.‏

ولو مات رجل ولم يعرف له وارث صرف ماله في مصالح المسلمين، وإن كان في نفس الأمر له وارث غير معروف، حتى لو تبين الوارث يسلم اليه ماله، وإن كان قبل تبينه يكون صرفه إلى من يصرفه جائزًا،/ وأخذه له غير حرام، مع كثرة من يموت وله عصبة بعد لم تعرف‏.‏

وإذا تبين هذا فيقال‏:‏ ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم اجتنبه‏.‏ فمن علمت أنه سرق مالًا أو خانه في أمانته، أو غصبه، فأخذه من المغصوب قهرًا بغير حق لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاء عن أجرة، ولا ثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عين مال ذلك المظلوم‏.‏

وأما إن كان ذلك المال قبضه بتأويل سائغ في مذهب بعض الأئمة جاز لي أن أستوفيه من ثمن المبيع، والأجرة، والقرض، وغير ذلك من الديون‏.‏ وإن كان مجهول الحال، فالمجهول كالمعدوم، والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكا له إن ادعي أنه ملكه، أو يكون وليًا عليه؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، وولي بيت المال، أو يكون وكيلا فيه‏.‏ وما تصرف فيه المسلم أو الذمي بطريق الملك أو الولاية جاز تصرفه‏.‏

فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان ذلك الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو ولم أعلم أنا كنت جاهلا بذلك، والمجهول كالمعدوم، فليس أخذي لثمن المبيع، وأجرة العمل، وبدل القرض بدون أخذي اللقطة؛ فإن اللقطة أخذتها بغير / عوض، ثم لم أعلم مالكها، وهذا المال لا أعلم له مالكا غير هذا، وقد أخذته عوضًا عن حقي، فكيف يحرم هذا على‏؟‏‏!‏ لكن إن كان ذلك الرجل معروفا ـ بأن في ماله حرامًا ـ ترك معاملته ورعا‏.‏ وإن كان أكثر ماله حرامًا ففيه نزاع بين العلماء‏.‏

وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلا، ومن ترك معاملته ورعا كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل اللّه بها من سلطان‏.‏

وبهذا يتبين الحكم في سائر الأموال؛ فإن هذا الغالط يقول‏:‏ إن هذه الألحام والألبان التي تؤكل قد تكون في الأصل قد نهبت، أو غصبت‏.‏ فيقال‏:‏ المجهول كالمعدوم، فإذا لم نعلم كان ذلك في حقنا كأنه لم يكن، وهذا لأن اللّه إنما حرم المعاملات الفاسدة لما فيها من الظلم؛ فإن اللّه تعالى يقول في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ ، والغصب وأنواعه، والسرقة والخيانة داخل في الظلم‏.‏

وإذا كان كذلك فهذا المظلوم الذي أخذ ماله بغير حق، ببيع أو أجرة، وأخذ منه، والمشتري لا يعلم بذلك، ثم ينقل من المشتري / إلى غيره، ثم إلى غيره، ويعلم أن أولئك لم يظلموه، وإنما ظالمه من اعتدي عليه، ولكن لو علم بهم فهل له مطالبتهم، بما لم يتلزموا ضمانه‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ أصحهما أنه ليس له ذلك‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن الظالم إذا أودع ماله عند من لا يعلم أنه غاصب، فتلفت الوديعة، فهل للمالك أن يطالب المودع‏؟‏ على قولين‏:‏ أصحهما أنه ليس له ذلك، ولو أطعم المال لضيف لم يعلم بالظلم، ثم علم المالك فهل له مطالبة الضيف‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ ليس له مطالبته‏.‏ ومن قال‏:‏ إن له مطالبته، لا يقول‏:‏ إن أكله حرام، بل يقول‏:‏ لا إثم عليه في أكله، وإنما عليه أداء ثمنه، بمنزلة ما اشتراه‏.‏ وصاحب القول الصحيح يقول‏:‏ لا إثم عليه في أكله، ولا غرم عليه لصاحبه بحال، وإنما الغرم على الغاصب الظالم الذي أخذه منه بغير حق‏.‏ فإذا نظرنا إلى مال معين بيد إنسان لا نعلم أنه مغصوب، ولا مقبوض قبضا لا يفيد المالك، واستوفيناه منه، أو اتهبناه منه، أو استوفيناه عن أجرة، أو بدل قرض، لا إثم علينا في ذلك بالاتفاق‏.‏

وإن كان في نفس الأمر قد سرقه أو غصبه، ثم إذا علمنا فيما بعد أنه مسروق، فعلى أصح القولين لا يجب علينا إلا ما التزمناه بالعقد، أي لا يستقر علينا إلا ضمان ما التزمناه بالعقد، فلا يستقر علينا ضمان ما أهدي أو وهب، ولا ضمان أكثر من الثمن، وكذلك الأجرة، /وبدل القرض إذا كنا قد تصرفنا فيها لم يستقر علينا ضمان بدله‏.‏

لكن تنازع الفقهاء هنا في ‏[‏مسألة‏]‏ وهي أنه‏:‏ هل للمالك تضمين هذا المغرور الذي تلف المال تحت يده، ثم يرجع إلى الغار بما غرمه بغروره‏؟‏ أم ليس له مطالبة المغرور إلا بما يستقر عليه ضمانه‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ ومثل هذا لو غصب رجل جارية فاشتراها منه إنسان، واستولدها أو وهبه إياها، فقد اتفق الصحابة والأئمة على أن أولادها من المغرور، يكونون أحرارًا؛ لأن الواطئ لا يعلم أنها مملوكة لغيره، بل اعتقد أنها مملوكته، مع اتفاقهم أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق، ويتبع أباه في النسب والولاء، ومع هذا فجعلوا ابنه حرًا لكون الوالد لم يعلم، والمجهول كالمعدوم‏.‏ وأوجبوا لسيد الجارية بدل الولد؛ لأنه كان يستحقه لولا الغرور، فإذا خرجوا عن ملكه بغير حق كان له بدلهم، وأوجبوا له مهر أمة‏.‏

وقالوا في أصح القولين‏:‏ إن هذا يلزم الغار الظالم الذي غصب الجارية وباعها، لا يلزم المغرور المشتري إلا ما التزمه بالعقد، وهو الثمن فقط‏.‏ ثم هل لصاحبها أن يطالب المغرور بفداء الولد، والمهر، ثم يرجع به المغرور على الغار الظالم‏؟‏ أم ليس له إلا مطالبة الغار الظالم‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ ولا نزاع بين الأمة أن وطأه ليس بحرام، وأن ولده ولد رشدة لا ولد عنه‏.‏ فهو ولد حلال لا ولد / زنا، وكذلك في سائر هذه الصور لم يتنازعوا أنه لا إثم على الآكل ولا على اللابس، ولا على الواطئ الذي لم يعلم‏.‏

وإنما تنازعوا في الضمان؛ لأن الضمان من باب العدل الواجب في حقوق الآدميين، وهو يجب في العمد والخطأ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ، فقاتل النفس خطأ لا يأثم، ولا يفسق بذلك؛ ولكن عليه الدية، وكذلك من أتلف مالًا مغصوبا خطأ فعليه بدله، ولا إثم عليه، فقد تبين أن الإثم منتف مع عدم العلم‏.‏

وحينئذ، فجميع الأموال التي بأيدي المسلمين واليهود والنصاري التي لا يعلم بدلالة ولا أمارة أنها مغصوبة أو مقبوضة قبضًا لا يجوز معه معاملة القابض، فإنه يجوز معاملتهم فيها بلا ريب، ولا تنازع في ذلك بين الأئمة أعلمه‏.‏

ومعلوم أن غالب أموال الناس كذلك، والقبض الذي لا يفيد الملك هو الظلم المحض، فأما المقبوض بعقد فاسد كالربا والميسر؛ونحوهما،فهل يفيد الملك‏؟‏على ثلاثة أقوال للفقهاء‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يفيد الملك، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ لا يفيده، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في المعروف / من مذهبه‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إن فات أفاد الملك، وإن أمكن رده إلى مالكه ولم يتغير في وصف ولا سعر لم يفد الملك، وهو المحكي عن مذهب مالك‏.‏

وهذه الأمور والقواعد قد بسطناها في غير هذا الجواب، ولكن نبهنا على قواعد شريفة تفتح

باب الاشتباه في هذا الأصل، الذي هو أحد أصول الإسلام، كما قال الإمام أحمد وغيره‏:‏ إن أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏‏.‏ فإن الأعمال إما مأمورات، وإما محظورات، والأول فيه ذكر المحظورات والمأمورات، إما قصد القلب، وهو النية، وإما العمل الظاهر، وهو المشروع الموافق للسنة، كما قال الفضيل ابن عياض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ ، قال‏:‏ أخلصه وأصوبه، قالوا‏:‏ يا أبا على، ما أخلصه، وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا‏.‏ والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة‏.‏

فتبين أن ما ذكره هذا القائل الذي قال‏:‏ أكل الحلال متعذر، ولا يمكن وجدوه في هذا الزمان، قوله خطأ مخالف للإجماع، بل / الحلال هو الغالب على أموال الناس، وهو أكثر من الحرام، وهذا القول قد يقوله طائفة من المتفقهة المتصوفة، وأعرف من قاله من كبار المشايخ بالعراق، ولعله من أولئك انتقل إلى بعض شيوخ مصر‏.‏ ثم الذي قال ذلك لم يرد أن يسد باب الأكل، بل قال‏:‏ الورع حينئذ لا سبيل اليه‏.‏ ثم ذكر ما يأتي فيما يفعل ويترك‏.‏ لم يحضرني الآن‏.‏

فليتدبر العاقل، وليعلم أنه من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، احتاج إلى أن يضع قانونًا آخر متناقضا يرده العقل والدين، لكن من كان مجتهدًا امتحن بطاعة اللّه ورسوله، فإن اللّه يثيبه على اجتهاده، ويغفر له خطأه‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏

وما ذكره من أن وقعة المنصورة لما لم تقسم فيها المغانم، واختلطت فيها المغانم، دخلت الشبهة‏.‏

الجواب عنه من كلامين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ الذي اختلط بأموال الناس من الحرام المحض كالغصب الذي يغصبه القادرون من الولاة والقطاع، أو أهل الفتن، وما يدخل في ذلك من الخيانة في المعاملات أكثر من ذلك بكثير، / لا سيما في هذه البلاد المصرية؛ فإنها أكثر من الشام والمغرب ظلمًا، كظلم بعضهم بعضا في المعاملات بالخيانة، والغش، وجحد الحق، ولكثرة ما فيها من ظلم قطاع الطريق والفلاحين والأعراب، ولكثرة ما فيها من الظلم الموضوع من المتولين بغير حق‏.‏ فإحالة التحريم على هذا الأمر أولي من إحالته على المغانم‏.‏

الثاني‏:‏ أن تلك المغانم قد ذكرنا مذهب الفقهاء فيها، وبينا أن الصحيح أن الإمام إذا أذن في الأخذ من غير قسم جاز، وأنه إذا لم يجز فمن أخذ مقدار حقه جاز، وأن من أخذ أكثر من حقه، وتعذر رده على أصحابه لعدم العلم بهم، فإنه يتصدق به عنهم، وأنه لو لم يتصدق به عنهم وتصرف فيه، فمتي وصل اليه منه شيء لم يعلم بحاله لم يكن محرمًا عليه، ولا عليه فيه إثم‏.‏ وهذا الحكم جار في سائر الغصوب المذكورة‏.‏

وتبين بما ذكرناه أن من آجر نفسه أو دوابه أو عقاره أو ما يتعلقه، وأخذ الثمن والأجرة لم يحرم عليه‏.‏ سواء علم ذلك الثمن والأجرة حلالا للمالك، أو لم يعلم حاله بأن كان مستورًا، وإن علم أنه غصب تلك الدراهم، أو سرقها، أو قبضها بوجه لا يبيح أخذها به لم يجز أخذها عن ثمنه وأجرته، مع أن هذا فيه نزاع بين الفقهاء تضيق هذه الورقة عن بسطه‏.‏

/وأما قول القائل‏:‏ الدرهم كيف قبل التغير، وصار حرامًا بالسبب الممنوع، ولم يقبل التغير فيصير حلالا بالسبب المشروع‏.‏

فيقال له‏:‏ بل قبل التغير فيما حرم لوصفه، لا بما حرم لكسبه‏.‏ فالأول مثل الخمر، فإنها لما كانت عصيرًا لم تصر حلالًا طاهرًا، فلما تخمرت كانت حراما نجسًا، فإذا تخللت بفعل اللّه من غير قصد لتخليلها كانت خل خمر حلالا طاهرا باتفاق العلماء؛ وإنما تنازعوا فيما إذا قصد تخليلها‏.‏

وتنازعوا في سائر النجاسات كالخنزير إذا صار ملحًا، والنجاسة إذا صارت رمادًا‏.‏ فقيل‏:‏ لا يطهر كقول الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك، وأحمد‏.‏ والثاني‏:‏ مثل المال المغصوب هو حرام؛ لأنه قبض بالظلم، فإذا قبض بحق أبيح، مثل أن يأذن فيه المالك للغاصب، أو يهبه إياه، أو يبيعه منه، أو يقبضه المالك، أو وليه، أو وكيله‏.‏ ثم الغاصب إذا أعطاه لمن لا يعلم أنه مغصوب، كان قبضه بحق؛ لأن اللّه لم يكلفه مالا يعلم، وكذلك بين قبضه من القابض بحق‏.‏ وقد تقدم الكلام في الضمان‏.‏ واللّه أعلم‏.‏